الفصل الثالث

من كتاب الشخصية

للكاتب عبد الله خمّار

 

الشخصية الجاهزة والنامية والصراعان الخارجي والداخلي

        الناس  معادن منها الثمين ومنها الخسيس، والتجربة هي الأتون الذي تنصهر فيه هذه المعادن ويعاد تشكيلها من جديد، فبعضها تزداد قيمته، وبعضها تزداد خساسته، وبعضها يبقى على حاله لا يتغير فيه شيئ. هناك من تسمو بهم التجارب فيخرجون منها أقوياء ونزهاء، ولو أنهم ضعفوا وأخطأوا وانحرفوا في البداية، وهناك من تدفعهم التجربة والمعاناة إلى تبرير شرورهم، وضعف نفوسهم، فيدعون أن الحياة غابة لا يعيش فيها إلا الأقوياء، وساحة حرب تباح فيها كل الأسلحة ولا مكان فيها للمبادئ السامية.

        والشخصيات في الرواية لا تختلف عن الشخصيات الحقيقية في تأثرها بالتجارب التي تمر بها في أحداث الرواية سلبا أو إيجابا وفي تطورها بسموها أو انحدارها، والشخصية التي نراها في ختام الرواية ليست هي نفسها التي نراها في بدايتها، والتغير الحاصل هو نتيجة هذه التجربة بخيرها وشرها، لذلك نسميها الشخصية النامية لأنها تنمو من خلال الأحداث، ولا نستطيع التنبؤ بسلوكها لأنه غير معروف أو محدد، والتجربة كثيرا ما تقودها إلى صراع داخلي بين الخير والشر أما الشخصية التي لا تتأثر بما يمر بها من تجارب في أحداث الرواية، وتظل كما هي لا تتغير في بداية الرواية ونهايتها فهي الشخصية الجاهزة لأنها ذات نمط واحد يتكرر باستمرار.

الشخصية النامية:

ولنبدأ بهذا المثال عن الشخصية النامية:

جان فالجان (فيكتور هيغو):

        "لقد كان كما سبق منا القول، جاهلا، ولكنه لم يكن أبله. كان النور الطبيعي مضاء في ذات نفسه، وضاعف البؤس، وللبؤس أيضا ضياؤه، تلك الأشعة القليلة التي أنارت عقله، ففي الأصفاد وتحت السياط، وفي حجيرة الحبس المظلمة، وفي غمرة الإعياء، وتحت شمس السجن المحرقة، وفوق الألواح الخشبية التي تشكل سرر المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، كان يلتفت إلى ضميره ويفكر.لقد أقام من نفسه هو محكمة، وشرع يحاكم نفسه بنفسه.

        لقد أدرك أنه لم يكن رجلا بريئا عوقب ظلما، لقد اعترف بأنه ارتكب عملا متطرفا يوجب اللوم، وبأنه كان من الجائز أن لا يضن عليه بالرغيف لو طلبه، وبأنه كان من الخير على أية حال لو اعتصم بالصبر في انتظار الرحمة، أو في انتظار العمل، وبأن قول المرء: "وهل استطيع أن أنتظر حتى أكون جائعا، ليس حجة على الإطلاق، وبأن من النادر جدا في المحل الأول، أن يموت المرء جوعا بالمعنى الحرفي".

                        البؤساء ص 154

        لقد سرق جان فالجان، ومن أجل رغيف سجن وهرب من السجن وزيدت المدة حتى أصبح محكوما بالأشغال الشاقة، وأصبح في نظر القانون مجرما عريقا. ولكننا نراه هنا يحاكم نفسه بنفسه، ولا يتنصل من مسؤوليته، إنه صراع في داخله ينتصر فيه النور على الظلمة والخير على الشر. وهو لا يفتأ يفاجئنا ويدهشنا بأعماله، فمن سرقة الشمعدانات إلى التوبة النصوح على يد الأسقف، ثم اشتغاله بالصناعة ليصبح من رجالها الكبار، ويصبح اسمه العمدة مادلين، ثم يغامر بحياته ومستقبله حين رفع العربة التي رزحت فوق فوشلوفان. فشخصية فالجان ذات أبعاد متعددة،  وهو يتغير ونحو الأفضل دائما، وباختصار فإن جان فالجان الذي نراه في آخر الرواية يختلف اختلافا كليا عن جان فالجان الذي رأيناه في أولها. وهذا مثال آخر عن الشخصية النامية.

تيناردييه وزوجته (فيكتور هيغو):

        "من كان تيناردييه هذا و زوجته؟

سوف نجتزئ بكلمة نقولها هنا، وفيما بعد سنكمل الصورة، كانا ينتسبان إلى تلك الطبقة النغلة المؤلفة من أناس أجلاف، ارتفعت بهم الأيام، ومن أناس أذكياء هبطت بهم الأيام، والتي تقع بين ما ندعوه الطبقة الوسطى، وما ندعوه الطبقة الدنيا، والتي تجمع بعض خطيئات الثانية، إلى رذائل الأولى كلها تقريبا، من غير أن تملك حوافز العمل الكريمة، وسجايا البورجوازي الباعثة على الاحترام.

        كانا من تلك الطبائع القزمة التي إذا اتفق أن مستها نار كالحة، أمست في سهولة، ذات ضخامة هائلة. كانت المرأة في أعماقها، بهيمة شرسة، وكان الرجل في أعماقه وغدا محتالا، وكان كلاهما في أعلى الدرجات، قادرا على ذلك الضرب من التقدم البشع الممكن تحقيقه في اتجاه الشر. إن ثمة نفوسا تزحف مثل عقرب الماء (السرطان) زحفا موصولا نحو الظلمة، راجعة القهقرى في الحياة، بدلا أن تتقدم فيها، مصطنعة ما تم لها من تجارب لكي تزيد تشوهها الذاتي، فكل يوم يمر بها يجعلها أكثر سوءا وأكثر انحدارا نحو الرذيلة المتكاثفة، هذا الرجل وهذه المرأة، كانا من أصحاب هذه النفوس".

البؤساء 262

        هذا الوصف لتيناردييه وزوجته، يبين لنا السمة المميزة لهما  وهي الشر، وإذا قرأنا رواية البؤساء نجد كل أعمالهما منذ التقائنا بهما، تقوم على الشر، وتنطوي على الخبث، في سرقة تيناردييه لأموال الجنود الأموات في ساحة المعركة وخواتمهم وساعاتهم، وفي خداع الإثنين فانتين فيما ترسله المسكينة لهم لتربية كوزيت. في محاولتهما سرقة جان فالجان والاعتداء عليه...الخ. إنهما شخصيتان انحدرتا إلى الدرك الأسفل ولم يعد بإمكانهما الصعود، لقد تغيرتا منذ بداية الرواية ولكن نحو الأسوأ دائما.

الشخصية الجاهزة التي تتحول إلى نامية:

        قد نجد شخصية تظل جاهزة طيلة أحداث الرواية أو المسرحية ولكن قبل أن يسدل الستار نراها تتبدل وتصبح نامية. وهذا التبدل الذي يحدث هو تبدل درامي مفاجئ يدهشنا، ليس لأننا لا نتوقعه فحسب. بل لأنه مخالف كذلك لطبيعة الشخصية، وهذا مثال للشخصية وهي جاهزة:

المفتش جافير (فيكتور هيغو):

        "كان رواقيا، جديا، كالح الوجه، كان حالما كئيبا، وكان وضيعا ومتشامخا مثل جميع المتعصبين، كانت نظرته باردة، وكانت ثاقبة مثل المخرز. كانت حياته كلها مفرغة في هاتين الكلمتين: اليقظة والمراقبة.

        لقد رسم خطا مستقيما عبر أشد الأشياء التواء في العالم. كان ضميره رهن جدواه، وكان دينه رهن واجباته، وكان جاسوسا كما يكون غيره من الناس كاهنا. والويل لمن يقدر له أن يقع بين يديه ! كان خليقا به أن يعتقل أباه لوفر من سجن المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، ويشي بأمه إذا خالفت الحكم الذي يفرض عليها الإقامة في مكان بعينه بعد الخروج من السجن. وكان خليقا به أن يفعل هذا بمثل ذلك الضرب من الارتياح الباطني الذي ينبثق من الفضيلة، كانت حياته حياة حرمان وعزلة، وإنكار ذات، وعفة؛ حياة لا تعرف اللهو البتة، كانت هي الواجب العنيد، الحقود، المستغرق في عمله كشرطي... ترصد لا يرحم، وإخلاص ضار، وجاسوس بوليسي قاس رخامي القلب".

                البؤساء (1) ص 290

        هذا هو جافير، لا يعرف إلا طريقا مستقيما واحدا هو القانون وما يلائم القانون، إنه لا يعرف في الواجب أباه ولا أمه، ولا يتورع عن سجنهما لو خالفا القانون، والقانون في نظره هو العدل وهو الأخلاق وهو الفضيلة؟ وماذا لو أخطأ القانون؟ لا يمكن للقانون أن يخطئ في نظر جافير، ونحن نراه هكذا شخصية جاهزة، ذات فكرة محددة ثابتة وهدف واحد لا يحيد عنه وهو مطاردة من يخالفون القانون.

        لذا نراه منذ البدء يطارد "جان فالجان" المحكوم بالأشغال الشاقة، ولا يكلف نفسه عناء السؤال: لماذا حوكم وسجن؟ وماهي تهمته؟ وهل هو مظلوم؟ فهو ليس قاضيا. إنه مفتش بوليس وعليه التنفيذ لا التفكير، وتثبت هذه الصورة في أذهاننا، ونتنبأ دائما بما سيفعله جافير حين نراه، فهو لا يفكر بعقله ولا بقلبه، بل يفكر من خلال بذلته وواجبه.

        ويمسك المتمردون أثناء فتنة باريس بجافير، ويقيدونه، ثم يقررون قتله، ويتطوع "جان فالجان" الذي كان حاضرا بالتكفل بمهمة قتله، ويخرجه وهو مقيد، ويحدثه جان فالجان وهما في الخارج بعيدا عن المتمردين، ويستسلم جافير لقدره بشجاعة:

        "وأجاب جافير: -خذ بثأرك" 

وأخرج جان فالجان من جيبه سكينا، وفتحها.

وصاح جافيـــر:

        - "مدية! أنت على حق، هذا يلائمك أكثر"

وقطع جان فالجان السير الجلدي المطوق لعنق جافير، ثم قطع الحبال المطوقة لمعصميه، ثم انحنى، وقطع الحبل المكبل لقدميه، ثم انتصب وقال له:

        - "أنت طليق السراح"

        ولم يذهل جافير في يسر. ومع ذلك، وبرغم سيطرته الكاملة على نفسه فإنه لم يستطع أن ينجو من بعض الانفعال. لقد ظل فاغر الفم جامدا لا حراك فيه".

        "ومضى في سبيله في اتجاه الأسواق، وأتبعه جان فالجان بصره، وبعد بضع خطوات التفت جافير وصاح مخاطبا جان فالجان:

        - "أنت توقع السأم في نفسي. ليتك قتلتني"

البؤساء (5)   ص 102 ـ 103

        وهذه الكلمة الأخيرة ذات دلالة، وجافير يقصدها حقا، لأن إطلاق سراحه أزعجه فقد أتى من شخص ظل يطارده من سنوات، وهاهو يظفر به ويطلقه. ولو لم يتقابل جافير وفالجان مرة أخرى لظل جافير على حاله، و لكنهما تقابلا مرة أخرى وقبض جافير على فالجان.

        ويبدأ الصراع الداخلي في نفسه. طلب منه جان فالجان مهلة ليصعد إلى البيت ويرتب بعض الأمور و يعود، ونفاجأ بقبول جافير واندهش له، وفيما هو متكئ على الحاجز الواقع فوق تيارات نهر السين، كان يدور في صدره وللمرة الأولى في حياته صراع داخلي عنيف:

الصراع بين الضمير والواجب (هيغو):

        "وأسند جافير مرفقيه إلى الحاجز، مطوقا ذفنه بيديه، وفيما كانت أصابعه منشبة ميكانيكيا في لحية عارضيه، أنشأ يفكر.

        كان يعتمل في أعماق وجوده شيء جديد، ثورة، كارثة، وكان فيها ما يدعو إلى فحص الضمير.كان جافير يقاسي آلاما رهيبة.

        فمنذ بضع ساعات وجافير في حال غير طبيعية، كان قلقا مشغول البال، وكان ذهنه الشديد الصفاء في عماه، قد فقد شفافيته، كان ثمة سحابة في هذا البلور. لقد استشعر جافير أن الواجب كان قد شرع يضعف في ضميره، ولم يكن في ميسوره أن يخفي ذلك عن نفسه، فحين التقى جان فالجان، في كثير من عدم التوقع، فوق شاطئ الـ "سين" كان في ذات نفسه شيء من الذئب، الذي يمسك بفريسته من جديد، والكلب الذي يعثر على صيده كرة أخرى.

هناك طريقان لا طريق واحد:

        لقد رأى أمامه طريقين متماثلين في الاستقامة، ولكنه رأى طريقين، وقد روعه ذلك. روعه هو، هو الذي لم يعرف قط في حياته غير طريق مستقيم واحد، وكان مما أورثه الألم الممض أن هذين الطريقين كانا متناقضين. إن واحدا من هذين الطريقين الاثنين ينفي الآخر. أي الطريقين هو الطريق الصحيح؟ كانت حالته تمتنع على الوصف.

بين الواجب والدوافع الشخصية:

        كان الذي جندله أن يكون مدينا بحياته لشرير، وأن يرتضي ذلك الدين ويفيه، وأن يكون، بالرغم منه، على مستوى واحد مع هارب من العدالة، وأن يبادله خدمة بخدمة، وأن يجيز له أن يقول: "امض لسبيلك!" ويقول له هو، بدوره: "أنت مطلق السراح!... وأن يضحي بالواجب، تلك الفريضة العمومية، على مذبح الدوافع الشخصية، وأن يستشعر في هذه الدوافع الشخصية شيئا عموميا أيضا، وربما شيئا ساميا، وأن يخون المجتمع لكي يكون وفيا لضميره، وأن تتحقق هذه الاستحالات كلها، وأن تتراكم عليه هو.

        كان شيء قد أثار دهشته: أن يكون جان فالجان قد غفر له، وكان شيء قد حجره: أن يكون هو، جافير، قد غفر لجان فالجان.

أين كان؟ والتمس نفسه، فلم يجد نفسه.

الحيـــرة:

        ما الذي يتعين عليه أن يفعله الآن؟ أيسلم جان فالجان إلى السلطات؟ إن ذلك شر. أيترك جان فالجان طليقا؟ إن ذلك شر أيضا. ففي الحال الأولى يهبط رجل السلطة إلى أحط من درك الرجل المحكوم عليه بالأشغال الشاقة، وفي الحال الثانية يرتفع الرجل المحكوم عليه بالأشغال الشاقة إلى مستوى أعلى من مستوى القانون ويدوسه بقدمه، وفي كلتا الحالين عار عليه، هو جافير. وأيا كانت الطريق التي سيسلكها فثمة زلة. إن للأقدار بعض الحدود القصوى المتحدرة على المستحيل، والتي لا تعدو الحياة أن تكون وراءها، هوة ليس غير، كان جافير قد بلغ واحدا من تلك الحدود القصوى.

        البؤساء (5) ص 234

        لقد رأى جافير وللمرة الأولى طريقين مستقيمين لا طريقا واحدا، ورأى أن القبض على جافير يعد شرا مثل إطلاق سراحه، وبهذا أصبح جافير شخصية نامية يعاني من الصراع الداخلي ويفكر ويختار، ولكنه مع ذلك لم يختر أحد الطريقين بل اختار طريقا ثالثا هو الهروب من المواجهة.

الانتحار:

        "وكان الموطن الذي اتكأ جافير عنده، كما يذكرالقارئ، واقعا فوق تيارات السين تماما، على خط عمودي فوق تلك الدوامة الرهيبة التي تنحل ثم تنعقد ثانية مثل لولب لا نهاية له.

        "وفجأة رفع جافير قبعته ووضعها على حافة الرصيف، وبعد لحظة بدا واقفا على الحافة شكل أسود كان خليقا بعابر سبيل متأخر أن يحسبه عن بعد شبحا من الأشباح. وانحنى ذلك الشكل نحوالـ "سين" ثم انتصب وسقط في الظلمات على نحو عمودي، وسمع هدير موج خافت. وكان الظلام وحده في مكنون تشنجات ذلك الشكل المربد الذي اختفى تحت الماء".

                                البؤساء (5)  250

        لقد كان جافير خلال أحداث الرواية كلها شخصية جاهزة وتحول في أواخرها إلى شخصية نامية، ولكن توازنه اختل، ورؤيته تضببت، ولم يستطع احتمال هذا التغيير، واختار الانتحار، في اللحظة التي حدث له هذا التغيير.

الشخصيات التي مرت بنا:

        أما الشخصيات التي مرت بنا في حديثنا عن بناء الشخصية، فكلها شخصيات نامية بدءا من حميد سراج ذي الصفات القيادية والتجربة الكبيرة إلى مكبث الذي غيره طموحه نحو الأسوأ فأصبح سفاحا يسفك الدماء، ومرنرع الذي اعترف بأخطائه،ومصطفى سعيد الذي تحول من محاضر في إحدى الجامعات الإنجليزية  إلى مزارع في السودان، فهذه الشخصيات كلها نراها مختلفة في نهاية الرواية عنها في بدايتها، إنها تنمو وتتغير ولكن نحو الأحسن أحيانا كحميد سراج الذي اكتسب خبرة وازداد عزما وتصميما، ومصطفى سعيد الذي حاول التلاؤم مع مجتمعه أو نحو الأسوأ مثل مكبث ومرنرع الثاني، وتيناردييه وزوجته.

        ولاشك أن براعة الكاتب تكمن في خلق الشخصيات النامية وإظهار التغيرات والتطورات التي أصابتها، وإبراز معاناتها وتعرضها إلى الصراع الداخلي وانتصارها أو انهزامها أما الشخصيات الجاهزة فيمكن وصفها في عبارة واحدة. وليس من الضروري أن تكون شخصيات الرواية كلها نامية فكثير من الروائيين يلجأ إلى خلق الشخصيات الجاهزة إذا لم تكن رئيسية، وليست معنية بالتجارب التي توفرها الأحداث، كشخصية الطبيب أو الممرضة ذات البعد الواحد، حيث لانرى إلا وجهها الإنساني المضحي براحته دائما من أجل المرضى، أو شخصية ضابط الشرطة الذي يلاحق المجرمين ليل نهار ويسهر على أمن المواطنين دون كلل أو ملل، وشخصية الإمام الذي يمثل الفضيلة دائما ويعظ ويرشد زاهدا في متاع الدنيا، أما إذا أصبحت إحدى هذه الشخصيات محورية أو أساسية في الرواية، فلابد أن نرى وجوهها المتعددة، فنرى في الطبيب مثلا وجهه الإنساني وجهه الآخر المادي أو المصلحي ونرى أهواءه ونزعاته وصراعاته الداخلية، وفي ضابط الشرطة الصراعات الداخلية التي يتعرض لها نتيجة للضغوط الأسرية والاجتماعية والوظيفية... وهكذا.

        يجدر بنا التذكير بأن أبطال كثير من الروايات هم من الشخصيات الجاهزة كأبطال بعض من روايات ديكنز ومنها "أوليفر تويست" مثلا، ولا يقوم البناء القصصي في هذه الروايات على نمو الشخصيات وتطورها بل على تطور الأحداث، حيث تمثل بعض هذه الشخصيات الجاهزة الخير وبعضها يمثل الشر ويجري الصراع بينهما لينتصر الخير في النهاية، ومن البديهي أن هذه الروايات تحفل بالصراع الخارجي ولا يوجد فيها صراع داخلي.

الشخصية الجاهزة في الكوميديا:

        وكثيرا ما تستعمل الشخصية الجاهزة أو النمطية في الروايات أو المسرحيات الفكاهية، ولكي نقرب هذه الشخصية إلى الأذهان نأخذ مثالا عنها من الجزائر شخصيات "بوبقرة" الذي يمثل نمط الريفي الساذج، و"موح باب الواد" الذي يمثل فتوات الأحياء القديمة في العاصمة، و"قاسي تيزي وزو" و"قريقش" و"المفتش الطاهر" ومساعده والشخصية الرائعة التي خلقها الرحابنة "سبع" في لبنان وهي شخصية الساذج الأهوج الذي يخفق دائما في الحب، وشخصية "غوار الطوشة" و"حسني البورظان" و"أبو صياح" في سوريا، وشخصية "أبو لمعة الأصلي" و"كشكش بيه" والعمدة الصعيدي "عبد الرحيم بيه" وابنه "عبد الموجود" في مصر، وغيرها في البلاد العربية الأخرى وأنا لا أتحدث عن الممثلين الذين يقومون بهذه الأدوار فكلهم ممثلون كبار ومحترفون، ولكن أتحدث عن هذه الشخصيات النمطية الجاهزة، التي يحبها الجمهور ويضحك معها وعليها لسذاجتها وطيبتها، وتكرارها للحركات والكلمات نفسها أحيانا. وتكرار جملة أو لازمة مثير للضحك كما نعلم. وكثير من الممثلين يخافون من هذه الأدوار لأن الجمهور إذا تعود عليهم فيها، لا يريد أن يراهم إلا من خلالها فيظلون حبيسين فيها.

الصراع الخارجي:

        يتمثل الصراع الخارجي في تنازع المصالح والأهواء والعواطف، وكثيرا ما تكون أسبابه السعي إلى الفوز بإحدى "السلطات الثلاثة": كرسي الحكم والمال والجمال، فسعي مكبث من أجل كرسي الحكم دفعه إلى القتل والصراع مع خصومه، وصراع فرعون مع الكهنة كان من أجل المال والجمال. وسعي تينادرييه وزوجته وصراعهما مع جان فلجان وغيره كان وراءه المال. وهناك أسباب أخرى، مثل كفاح حميد سراج والشعب الجزائري من أجل الحرية التي لاتقدر بثمن، وصراع المفتش جافير ممثل القانون مع الخارجين عنه، والصراع بين الخير والشر، وبين المبادئ والمصالح في كثير من الروايات. وكل أسباب الصراع هذه سببها اختلاف الغايات بين الشخصيات في الرواية أو المسرحية.

الصراع الداخلي:

        أما الصراع الداخلي، فهو ذاك الذي يحدث داخل النفس البشرية، بين دافعين متناقضين، كل واحد منهما يدفعها في طريق، فتكون أمام اختيار صعب، وامتحان عسير. وقد يكون الدافعان واجبين كما رأينا عند جافير: واجبه نحو وظيفته وواجبه نحو من أنقذه، أو بين الواجب والعاطفة أو يكون الصراع بين عاطفتين، أو بين المبادئ والمصالح، وللصراع الداخلى دور هام في بناء الشخصية، وتطور الأحداث فيها فنتيجته حاسمة بالنسبة إلى الشخصية حيث تسمو نتيجة هذا الصراع بها نحو الأعلى أو تنحدر بها نحو الهاوية حسب ما اختارته لنفسها.

 تمرين 1:

        إقرأ النصوص الثلاث الآتية وأجب عن أسئلتها:

1- الملكة نيتوقريس (نجيب محفوظ):

        غيب الباب الوزير، ووجدت الملكة نفسها وحيدة في البهو الكبير، فأسندت رأسها المتوج إلى ظهر العرش، وأغلقت جفنيها، وتنهدت تنهدا عميقا، صعد أنفاسا حارة مكتوية بحرقة الحزن والألم، فلشد ما تتصبر وتتجلد، حتى أن أدنى الناس إليها لا يدري بألسنة اللهيب التي تحترق بها أحشاؤها بغير رحمة...

        وقد ظلت تطالع الناس بوجه هادئ يكتنفه الصمت كأبي الهول.

        وما كانت تجهل من الأمر شيئا، فقد شاهدت المأساة من بدء فصولها، ورأت الملك يتردى في الهاوية، ويذهب فريسة لهواه الجامح، ويهرع إلى تلك المرأة -التي شاد بحسنها كل لسان- لا يلوي على شيء وأصابها سهم سام في عزة نفسها وسويداء عواطفها، ولكنها لم تبد حراكا، ونشب في صدرها صراع عنيف بين المرأة ذات القلب، والملكة ذات التاج، وأثبتت التجربة أنها كأبيها قوية الشكيمة، فصهر التاج القلب، وخنقت الكبرياء الحب، فانطوت على نفسها الحزينة سجينة خلف الستائر، وهكذا خسرت المعركة، وخرجت منها مهيضة الجناح، وما رمت عن قوسها سهما واحدا".

                                رادوبيس ص 444

الاسئلة:

        س 1: ما الصفة أو الصفات التي تتسم بها الملكة؟

        س 2: ما المعركة التي خسرتها الملكة ويشير إليها النص حسب رأيك؟

        س 3: هل هناك صراع في النص؟ بيّن طرفي الصراع ونوعه والمنتصر فيه.

        س 4: هل الشخصية جاهزة أم نامية؟ علل جوابك.

 

2- مديرة ملجأ الأيتام "تشارلز ديكنز":

        "إن ما قيمته سبعة بنسات ونصف بنس من الطعام ليشكل غذاء صالحا كاملا لطفل لما يشب بعد عن الطوق. ففي ميسور هذه السبعة بنسات ونصف البنس أن تكفل للطفل أشياء كثيرة كافية لأن تثقل معدته، وتوفر له اسباب الرفاهية.

        وكانت الأنثى العجوز امرأة، ذات حكمة وخبرة: كانت تعرف ما الذي ينفع الأطفال، وكانت تدرك إدراكا جد دقيق ما الذي ينفعها هي. وهكذا سخرت القسط الأعظم من الجعل الأسبوعي لمصلحتها هي، وأسلمت الجيل "الأبرشي" الصاعد إلى حياة أشد ضنكا من تلك التي حددت له في الأصل، موجدة بذلك وراء الدرك الأسفل دركا أشد إمعانا في السفلية، ومقيمة الدليل على أنها فيلسوفة عملية من الطراز الأول.

        والناس كلهم يعرفون قصة ذلك الفيلسوف العملي الآخر الذي كانت له فلسفة عظيمة تقول بأن في إمكان الفرس أن تحيا من غير طعام، والذي أثبت صحة فلسفته هذه بأن قصر غذاء الفرس على قشة واحدة في اليوم الواحد، وكان خليقا به من غير ريب أن يجعل من فرسه حيوانا مفعما بالنشاط والحيوية من غير أن يقدم إليها أي طعام البتة لو لم تمت قبل أربع وعشرين ساعة من تناولها أول جراية موفورة من الهواء النقي خصصت لها. ومن سوء طالع الفلسفة العملية الخاصة بتلك الأنثى التي عهد بأوليفر تويست إلى رعايتها الوافية أن تطبيق نظامها هي كانت تلازمه في العادة نتيجة مماثلة.

        إذ ما أن يناضل طفل للاحتفاظ برمقه، في رعايتها، على أصغر جزء ممكن من أهزل طعام ممكن، ويوفق إلى ذلك حتى يحدث  -وياللتمرد الجموح! في كل ثماني حالات ونصف من أصل عشر حالات. واحد من أمرين: إما أن يلم به السقم بسبب من الحرمان والبرد. أو يقع في النار بسبب من الإهمال أو يختنق نصف اختناق مصادفة واتفاقا. وفي كل من الحالات على تنوعها كان المخلوق الصغير البائس يدعى، عادة، إلى عالم آخر لكي يجمع إلى آبائه وأجداده الذين لم يعرفهم في هذه الدنيا البتة".

                        أوليفر توسيت (1)  ص 8

 

الاسئلة:

        س 1: ما الصفة أو الصفات التي تتسم بها مديرة ملجأ الأيتام؟

        س 2: ما وجه الشبه بين الفيلسوف ومديرة الملجأ.

        س 3: هل تلمح نوعا من الصراع في النص؟ بين طرفي الصراع، ونوعه، والمنتصر فيه.

        س 4: هل الشخصية جاهزة أم نامية؟ علل جوابك.

 

3- عائلة سعيد آيت سليمان "مولود فرعون":

سعيد آيت سليمان شيخ يتظاهر بالورع والتقى، ويناديه جميع الناس بابا سعيد احتراما له، ويعتبر في القرية رجلا حنكته الأيام، فلا يقدر عليه أحد من خصومه، ومن المعروف أنه قليل الوفاء بالعهد، ولم يكتف خلال حياته الطويلة بالدسائس ونكث العهود، بل لم يتورع من أن يسطو على أموال أقاربه وأصدقائه. وهكذا أصبح بابا سعيد من الشيوخ المحترمين، واجتمع له من المال ما يمكن أن يجتمع لأمثاله ممن يعتبرون من الأغنياء في "إيغيل نزمان".

أما بالنسبة للمواشي والدواب، فله بقرة وبغل وبضعة ثيران. وأما بالنسبة للأولاد، فولده البكر يشتغل كاتبا في دار البلدية، وناطورا في نفس الوقت، والولد الثاني اسمه مقران، وهو شاب يشبهه تماما في الذات والصفات، مطيع للأوامر ومتعنت في رأيه إلى أقصى حد. وقد سافر مقران مرة أو مرتين إلى فرنسا، غير أن المعيشة في بلاد الكفار لم ترقه، ولذلك عاد إلى القرية حيث تركت له عائلته مسؤولية القيام بكل ما يتصل بالفلاحة.

أما العجوز فقد كانت شديدة في معاملتها لعروستها ولأولادها، وكانت تثير الرعب في الحي كله، ولم يكن يسلم منها أحد، حتى بابا سعيد نفسه الذي كان يتعرض لبطشها في بعض الأحيان، وهي هزيلة الجسم كأنها البغلة العجفاء التي لم يبق منها سوى الهيكل العظمي، كما أنها سليطة اللسان، ولا تشفق على أحد ولا ترحم".

"الدروب الوعرة"  ص 50 ترجمة د. حنفي بن عيسى.

1-  استخرج صفات كل من أفراد هذه الأسرة من النص.

2-  ما الصفة الغالبة على سعيد آيت سليمان؟ وما الصفة الغالبة على زوجته؟

3-  هل سخصية سعيد آيت سليمان نامية أم جاهزة؟ علل رأيك بشاهد من النص.

4-  هل شخصية العجوز أقرب إلى الشخصية النامية أم الجاهزة؟ علل رأيك.

 

 

تمرين 2:

        1 ـ استخرج من الرواية التي تطبق عليها شخصيتين: نامية وجاهزة إن أمكن، وبين تغير النامية في الرواية وثبات الجاهزة على حالها.

        2 ـ استخرج من الرواية مثالين أحدهما عن الصراع الخارجي (صراع المصالح أو العواطف أو المبادئ)  والثاني عن الصراع الداخلي، وحدد طرفي الصراع في الحالتين.

        3 ـ تحدث عن تجربة مرت بك، عانيت فيها من الصراع الداخلي، بين طبيعة هذا الصراع، واذكر نتيجته.

تمرين 3:

        ضع إحدى شخصياتك الوطنية أو الاجتماعية أو العاطفية التي رسمتها سابقا أمام موقف تعاني فيه من الصراع الداخلي بين  دافعين: الواجب والعاطفة، أو بين عاطفة حب الوطن وعاطفة حب امرأة أو بين المبادئ السامية والمصلحة المادية المضمونة ثم بين نتيجة هذا الصراع بأسلوب روائي.

تمرين 4:

        بين الصراع الدائر في نفس قاض اكتشف أن أخاه الأكبر الذي رباه بعد وفاة والده وأنفق عليه حتى صار قاضيا، متورط في قضية اختلاس كبرى لأموال الدولة، وأنه يستطيع إتلاف الملف الذي يثبت تورطه دون أن يلفت الأنظار، ثم وضح نتيجة هذا الصراع وكيف تصرف القاضي.

تمرين 5:

        بين الصراع الدائر في نفس تلميذ غش في الامتحان فحصل على الدرجة الاولى بين أقرانه، وقررت المدرسة تكريمه لنبوغه واجتهاده. وضح نتيجة هذا الصراع وماقاله التلميذ في حفلة التكريم.

 

 لقراءة الفصل التالي انقر هنا: الفصل الرابع: دراسة الشخصية الروائية

  لقراءة البحث السابق انقر هنا: قواعد بناء الشخصية

 للاطلاع على فصول الكتاب، انقر هنا:  الشخصية

للاطلاع على الكتب التعليمية الأخرى للكاتب انقر هنا: كتب أدبية وتربوية